Sabtu, 26 November 2011

تربية الأولاد على ضوء سورة لقمان الأية 12- 19


تربية الأولاد
على ضوء سورة لقمان الأية 12- 19



الباحث : ذو الكفل هادي بن محمد أمنان

1432ه – 2011م

المقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على معلم الناي الخير، وهادي البشرية إلى نور الحق المبين والصراط المستقيم. ورضي الله عن أله وأصحابه والتابعين ممن حملوا إلى العالم رسالة الإسلام، وتعاليم القرأن. ورضي أيضا عمن سار على دربهم ومشى على طريقهم إلى يوم الدين وبعد.
فمن فضل هذا الإسلام على البشرية أن جاءها بمنهج شامل قويم في تربية النفوس وتنشئة الأجيال، وتكوين الأمم، وبناء الحضارات. وماذاك إلا لتحويل الإنسانية التائيهة من ظلمات الشرك والجهالة والضلال والفوضى إلى نور التوحيد والعلم والهدى والاستقرار.
وإن النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا ، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكا. فنلاحظ قول شهيد الإسلام سيد قطبب  (وانتصر محمد يوم صنع أصحانه صورا حية من إيمانه تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم صاغ من كل منهم قرأنا حيا يدب على الأرض. يوم جعل من كل فرد نموذجا مجسما للإسلام يراه الناس فيرون الإسلام.
و من أظهر المسؤوليات التي اهتم الإسلام بها وحظ عليها مسؤولية تربية الأوولاد تجاه من لهم في أعناقهم حق التعليم والتوجيه والتربية. وهذا ما أحاول كتابة المقالة عن تربية الأولاد في الإسلام على ضوء سورة لقمان، يتناول المنهج الذي يجب أن يسير عليه الأباء والمربون وكل من عليهم حق التربية والتعليم.
وها هي ما أستطيع تقديمه من التوجيه والتناصح وأسأل الله أن يوافق جيل الإسلام اليوم إلى أن يجعل الإسلام رائدة في الفكر والعقيدة.


سبب اختيار الموضوع
ولما كانت التربية الإسلامية تقوم على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده، والعمل الصالح والتواصي بالحق، وتحري العلم والمعرفة الصحيحة ونشرها بين الناس والتواصي بالصبر
أصبحت التربية الإسلامية فريضة على جميع الآباء والأمهات والمربين والمعلمين، وهذه المسؤولية أمانة دينية يتوارثها الأجيال، جيل بعد جيل ليربوا الناشئة على أصولها وتحت ظلالها فلا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة لهم إلا بتربية هذه النفوس وتلك الأجيال وفق ما شرعه الله لهم.
تعد وصايا لقمان الحكيم الواردة في سورة لقمان أنموذجا تربويا لأصول التربية المستقيمة، فقائلها رجل عرف بالحكمة، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ…} سورة لقمان: آية 12.
لذا فإن وصاياه من الأهمية بمكان في التربية والتنشئة الحسنة، فهي نابعة من القلب، ومبناها والقناعة الصدق، والتجربة والمعرفة.
من هنا كانت الحاجة ماسة للقيام بمثل هذه الدراسة ليتبين للقارئ من خلالها أصول التربية الإسلامية للإنسان كما جاءت في وصايا لقمان والمذكورة في سورة لقمان.


منهج الدراسة
يستخدم الباحث في دراسته المنهج التحليلي الاستنباطي لاستخراج جوانب التربية الإسلامية من وصايا لقمان وذلك بإتباع ما يلي:
1. قراءة الآيات الكريمة من كتاب الله عزوجل والمتضمن لتلك الوصايا الواردة في سورة لقمان من آية 13-19.
2. استخدام كتب التفسير بهدف التعرف على تفسير الآيات المشار إليها سابقا.
3. استنباط الجوانب التربية المتضمنة لتلك الوصايا.
4. التوصل إلى تحديد معالم أصول التربية الإسلامية للإنسان المسلم كما تظهر من خلال الوصايا.


كلمة الشكر والتقدير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى أله وأصحابه أجمعين ، أما بعد
أشكر إلى الله حق الشكر الذي علمني ورزقني علما نافعا وشرح صدري ويسر أموري، ثم أشكر على معهد العلوم الإسلامية والعربية بجاكرتا التي منحني فرصة دراسية الثمينة لا يعرفها إلا من ذاقها. كما يسرني أن أقدم جزيل شكري وخليص تقديري إلى :
1.  والدي الكرام الذان يعرفانني الله والإسلام وربياني أحسن التربية ولا يزالان يدعوان دعاء المخلصين في كل أوقاتهما لنيل العلوم النافعة في الدنيا والأخرة.
2.  فضيلة الدكتور ياسر الذي أشرفني في كتابة هذا البحث
3.  زوجي الكريم الذي بذل جهده في مساعدة كتابة هذا البحث
وأخيرا قد بذلت جهدي لإكمال البحث على قدر طاقتي ووسعي. وهذا البحث لا يخلو من خطأ لقلة علمي ومعرفتي وثقافتي ولا كمال إلا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على محمد وعلى أله وأصحابه أجمعين.


خطة البحث
الفصل الأول : تربية الأولاد
المبحث الأول : مفهوم التربية
المطلب الأول : التعريف اللغوي
المطلب الثاني : التعريف الاصطلاحي
الفصل الثاني : التعريف بسورة لقمان
المبحث الأول : سورة لقمان
الفصل الثالث : التعريف بشخصية لقمان
المبحث الأول : شخصية لقمان
الفصل الرابع : وصايا لقمان
 المبحث الأول : الاجتناب من ا لشرك بالله
المبحث لثاني : طاعة الوالدين
المبحث الثالث : الإيمان بقدرة الله
المبحث الرابع : الأمر بإقامة الصلاة
المبحث الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المبحث السادس : الصبر
المبحث السابع : الوصايا عن الأداب
الخاتمة


الفصل الأول : تربية الأولاد في الإسلام
المبحث الأول : مفهوم التربية
المطلب الأول : التعريف اللغوي
يشكل مفهوم التربية واحدا من أكبر المفاهم شيوعا واستخداما في الحياة الثقافية العامة . وقبل تناول المفهوم في مدلوله الاصطلاحي نشير إلى مفهوم التربية في مدلولاته اللغوية على النحو التالي.
يرجع مفهوم التربية إلى فعل الماضي (ربا يربي) تربية على وزن (غطى يغطي)[1] وتعني : أصلح شيئ وقومه. ويقال ربى الشيئ اي اعتنى به وأصلحه. وقد فسر البيضاوي قوله تعالى (رب العالمين) الفاتحة :2 بقوله الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، والرب هو المصلح والمضير
كما يشتق المفهوم من الفعل الماضي (ربا يربو)[2] اي زاد ونما يقول تعالى : 4 ts?ur šßöF{$# ZoyÏB$yd !#sŒÎ*sù $uZø9tRr& $ygøŠn=tæ uä!$yJø9$# ôN¨tI÷d$# ôMt/uur ôMtFt6/Rr&ur `ÏB Èe@à2 £l÷ry 8kŠÎgt/ ( الحج :5) فربت اي زادت ومنت لما يصينها من الماء
.ومنها قوله ويربي الصدقات البقرة : 276 اي يزيدها ويضاعفها.
ومن مصادرها الاشتقاقية أيضا ربي على وزن رضي معناها نشأ وترعرع في قوله تعالى ôÙÏÿ÷z$#ur $yJßgs9 yy$uZy_ ÉeA%!$# z`ÏB ÏpyJôm§9$# @è%ur Éb>§ $yJßg÷Hxqö$# $yJx. ÎT$u­/u #ZŽÉó|¹ (الإسراء :24)
ومما سبق يتبين أن كلمة التربية تحمل المعاني التالية[3] :
1.  الإصلاح والتوجيه كما في فعل ربى يربي
2.    انمو والزيادة على فعل ربا يربو
3.  التنمية والتغذية والتنشئة في فعل ربي ييربى


المطلب الثاني : التعريف الاصطلاحي
تعددت التعريفات التي تناولت هذا المفهوم بتعدد الباحثين والمفكرين والتيارات الفكرية المختلفة.
يعرفها جون ستيوارت ميل بأنها[4] : جميع ما نقوم به من أجل أنفسنا وما يقوم به الأخرون من أجلنا بغية الاقتراب من كمال طبيعتنا.
وهذا التعريف يخرج مفهوم التربية من دائرته الضيقة تعني بتأثير الكبار في الصغار وتأثير الراشدين في الأجيال وأن التربية تستمر مادام الإنسان حيا، ولا تتوقف لأن المجتمع دائم التغيير والتبديل فقد عرفها بعضهم بأنها "إعداد الفرد أو الكائن الإنساني لحياته في الدنيا والآخرة"1. وبأنها "تلك المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في إطار فكري واحد يستند إلى المبادئ والقيم التي أتي بها الإسلام, والتي ترسم عددًا منالإجراءات والطرائق العملية يؤدي تنفيذها إلى أن يسلك سالكها سلوكًا يتفق وعقيدة الإسلام.



الفصل الثاني : التعريف بسورة لقمان

المبحث الأول : سورة لقمان
هي مكية، أربع وثلاثون آية، خمسمائة وثمان وأربعون كلمة، ألفان ومائة وعشرة أحرف[5]
وقال الزمخشري في الكشاف : "مكية [إلا الآيات 27 و 28 و 29 فمدنية] وآياتها 34 وقيل 33 [نزلت بعد الصافات]"[6]
وقال سيد قطب : " وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها..
هذه القضية الواحدة- قضية العقيدة- تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.[7]


الفصل الثالث : التعريف بشخصية لقمان

المبحث الأول : شخصية لقمان
اسمه ونسبه:
اختلف في لقمان: هل هو عجمي، أم عربي؟ مشتق من اللقم، فمن قال: إنه عجمي منعه للتعريف والعجمة، ومن قال: إنه عربي منعه للتعريف، ولزيادة الألف والنون [8]
واختلفوا أيضا: هو نبي، أم رجل صالح؟ فذهب أكثر أهل العلم: إلى أنه ليس بنبي. وحكى الواحدي عن عكرمة، والسدي والشعبي أنه كان نبيا، والأول أرجح[9]
وهو لقمان بن باعور ابن ناحور بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم،
قال وهب: هو ابن أخت أيوب.
 وقال مقاتل: هو ابن خالته، عاش ألف سنة، وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى، فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت.
قال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل،[10]
وقال ابن كثير في البداية والنهاية : هو لقمان بن عنقاء بن سدون (1) .
ويقال لقمان بن ثاران (2) حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي.
قال السهيلي وكان نوبيا من أهل أيلة.
قلت وكان رجلا صالحا ذا عبادة وعبارة وحكمة عظيمة.
ويقال كان قاضيا في زمن داود عليه السلام فالله أعلم. [11]

أوصافه :
وقال سفيان الثوري عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبدا حبشيا نجارا .
وقال قتادة: عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى اليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة.
وقال:
يحيى بن سعيد الأنصاري: عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة[12]
وقال الأعمش عن مجاهد كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وفي رواية مصفح القدمين.[13]
صفاته:
كان لقمان من أخير الناس حكيما وفطينا، رقيق القلب، صادق الحديث، صاحب أمانة وعفة، وعقل وإصابة في القول، وكان رجلا سكيتا، طويل التفكر، عميق النظر لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحد يبزق ولا يتنحنح، ولا يبول ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها أي واحد.[14]
وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان، ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي. [15]

مهنته:
وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطا
قيل: كان نجارا. وقيل: كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.[16]


الفصل الرابع : وصايا لقمان

المبحث الأول : الاجتناب من الشرك بالله
أول وصية أوصى بها لقمان لابنه الاجتناب من الشرك كما قال الله تبارك وتعالى:  {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
 إنَّها الوصية العظيمة الكبرى بتحقيق التوحيد وتصحيح العقيدة والخلوص من الشرك، إنَّ أهم ما تُربى عليه الأجيال الناشئة المحافظةُ على عقيدة التوحيد والبعد عن الإشراك بالله تبارك وتعالى، فهذا من أهم المهمات وهو أساس الدين والملة.
فأول واجب يجب على الأبوين القيام به والاهتمام بأمره دون كلل، هو غرس عقيدة التوحيد في نفس الطفل وتوجيه عواطفه نحو حب الله ورسوله وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه، والإِيمان بالله الذي لا إله غيره وبملائكته ورسله، وتوحيد الله في الألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . لأن الإيمان بالله هو الموجه لسلوك الإنسان والدافع له إلى اتجاه الخير، والنصير له من حيث العناية والرعاية والتوفيق، كما أنه الذي يصرفه عن طريق الشر ويجعله متحلياً بالفضائل وحسن الخلق, والمقصود بالإيمان أي الإِيمان بما أوجب الله تعالى في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه}[17]. وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}.

المبحث الثاني : طاعة الأبوين
 وبعد الوصية بحق الله تعالى، كانت الوصية لقمان لابنه بأعظم حقوق الخلق، وهو حق الوالدين، كما قال تعالى:  {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه...} الآية.
ثم أمر الله تعالى ببرّ الوالدين،[18] جريا على عادة القرآن، فإنه كثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين الأمر بعبادة الله واجتناب الشرك وبين الأمر ببرّ الوالدين، كما في قوله سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء 17/ 23] ، فقال:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وأمرنا الإنسان وألزمناه ببرّ والديه وطاعتهما، وأداء حقوقهما، ولا سيما برّ الأم التي حملته في ضعف فوق ضعف، من الحمل إلى الطلق إلى الولادة والنفاس، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين والتربية ليلا ونهارا، كما قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة 2/ 233]
وقد بيّن الحديث النبوي أحقية الأم بالبرّ، فأوصى بها ثلاث مرات، ثم أوصى بالأب في المرة الرابعة، فجعل له ربع المبرة.
أمرنا الله أن نشكر نعمته علينا ونشكر للوالدين لأنهما سبب وجودنا في حياة الدينا، ومصدر الإحسان إلينا بعد الله تعالى.
إن عطف الوالدين على أولادهم عطاء لا يقدر بثمن ولا ينتظر منه العوض، إنه فطرة فطر الله الوالدين عليها، ولذلك كان برهما من أعظم الواجبات وفي مقدمة الصلات الاجتماعية، كما كان عقوقهما من الكبائر المقاربة للشرك بالله، ولهذا ورد الأمر بالإحسان إليهما في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل عقب الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الإشراك به.

المبحث الثالث : االإيمان بقدرة الله
قال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[19].
في الآية الكريمة يعلم لقمان ابنه مدى قدرة الله تعالى، حيث قيل: إن الحس لا يدرك للخردلة ثقلا، إذ لا ترجح ميزاناً. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن إتباع سبيل من أناب إليّ[20].
والآية الكريمة السابقة توجه الإنسان إلى قدرة الله الواسعة وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، فسبحانه وتعالى لا شريك له.
وكان توجيه لقمان لابنه بقدرة الله سبحانه وتعالى وإطلاعه على سعة علمه عزوجل عندما قال ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ...} فمازال ابن لقمان يضطرب حتى مات[21].
يبلغه هذا التعبير المصور حبة من خردل، صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة {فَتَكُنْ فِي صَخْرَة} أي صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ...} في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة {أَو ْفِي الأَرْض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فعلمه يلاحقها وقدرته لا تفلتها[22]. ويراد من ذلك الأعمال، المعاصي و الطاعات، أي إنْ تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة الترجية والتخويف[23].
ويدرك الإنسان من معرفته لقدرة الله عز وجل مراقبة الله الدائمة له في كل تصرف، مراقبة الله له في الصغيرة والكبيرة، وفي الجهر والخفاء.
وفي قوله تعالى: {حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَل}[24]، إشارة إلى دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور حبة من خردل، صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة {فَتَكُنْ فِي صَخْرَة} أي صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ...} في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة {أَو ْفِي الأَرْض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فعلمه يلاحقها وقدرته لا تفلتها[25]. ويراد من ذلك الأعمال، المعاصي و الطاعات، أي إنْ تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة الترجية والتخويف[26].
ولذا فهو يراقب الله وهم يعمل... فلا يعمل شيئاً بغير إخلاص، لا يعمل شيئاً يقصد الشر... لا يعمل مستهتراً ولا مستهينا بالعواقب، ولا يعمل شيئا لغير الله، فالله سبحانه وتعالى يحاسبه على النية بعد العمل وعلى الإخلاص فيه.[27]

المبحث الرابع : الأمر بإقامة الصلاة
الوصية الثالثة هي الأمر بإقامة الصلاة كما قال تعالى :  {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ...} الآية
فرض الله سبحانه وتعالى على عباده عبادات لها أثرها في تهذيب سلوك الإنسان، وإصلاح القلوب ومن هذه العبادات الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام وعموده الذي لا يقوم إلا به فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" الحديث[28].
والصلاة هي أول ما أوجبه الله تعالى على عباده من العبادات، وفد فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء، يقول أنس رضي الله عنه: "فرضت الصلاة على النبي ليلة أسرى به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً ثم نودي يا محمد: إنه لا يبدل القول لدىّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين"[29].
وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة وقد ثبت عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر... " الحديث[30].
إن المتمعن بالعبادات التي فرضها الله سبحانه وتعالى - على الناس - عموماً، والصلاة خصوصاً يدرك أثرها التربوي في إشراقة النفوس، وطمأنينة القلوب، وإصلاح الفرد والجماعة، ومن هذه الآثار التربوية ما يلي [31]:
1. إقامة الصلاة دليل على صدق الإيمان، وعلى تقوى الله، وعلى ما يتمتع به صاحبها من بره بعهده وقيامه على الحق وإخلاصه لله، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[32][33].
2. الصلاة منهج متناسق لتربية الرفد والمجتمع يصل بهما إلى قمة السمو الأخلاقي، قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ... } الآية[34][35]
3. الصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات والمكاره في الحياة الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[36].
4. الصلاة غذاء روحي للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني، قال تعالى: {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[37].
5. إن الصلاة سبب لمحو الخطايا وغفران الذنوب فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أرأيتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقى من دَرَنِه؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيئاً، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا"[38].


المبحث الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بعد ما أمر لقمان ابنه بالإِيمان بالله و عدم الإشراك به، والقيام ببر الوالدين  والثقة بعدالة الجزاء والتوجه إلى الله بالصلاة، أمره بالقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لما في ذلك من آثار حب الفضيلة وأساس من أسس صلاح المجتمع الإنساني بالإضافة إلى أن ممارسته يوقظ الشعور وينبه الضمير ويخيف المقدم على المنكر، وإذا تضامن الناس في ذلك - كما هو الواجب شرعاً - ووجد تضامن الناس على الفضيلة فلا تضيع بينهم، ووجد تضامنهم على استنكار الرذيلة فلا توجد بينهم[39].
يقول اللشيخ د وهبة الزحيلي في تفسيره : "والأمر بالمعروف أي أمر النفس والغير بما هو معروف شرعا وعقلا، كمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، مما يهذب النفس ويدعو إلى التحضر والتمدن، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 91/ 9- 10]
والنهي عن المنكر، أي منع النفس والآخرين من المعاصي والمنكرات المحرّمة شرعا والقبيحة عقلا، والتي تغضب الله، وتوجب عذاب جهنم.

لا شك أن الله عز وجل جعل هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس، كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناط هذه الخيرية مع الإِيمان بالله عز وجل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[41].
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"[42].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاولة تغيير المنكر بالنصيحة وبالطرق العملية المثمرة مساهمة جليلة في صيانة المجتمع وتقويمه و إصلاحه، وكل مساهمة في إصلاح المجتمعات الإنسانية وتقويمها وصيانتها أعمال أخلاقية فاضلة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنكاره ومحاولة تغييره من مكارم الأخلاق الإيمانية لما فيها من خدمة اجتماعية، وصيانة للمجتمعات عن الانزلاق في مزالق الانحراف، ولذلك حرص الإسلام حرصا شديداً على جعل كل المسلمين والمسلمات حرّاساً لأسوار الفضائل وتعاليم الدين الحنيف فمن جاهد منهم المنحرفين بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
فوظيفة حراسة المجتمع لحمايته من الانحراف وظيفة اجتماعية لا يجوز التخلي عنها في أي حال من الأحوال فإذا حدث ذلك تعرضت الأمة كلها للعقوبة العامة[43].
ويؤيد هذا ما رواه الترمذي عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"[44].


المبحث السادس : الصبر
أوصى لقمان ابنه بالصبر يقول الحق تبارك وتعالى على لسان لقمان {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[45]، لأن الإنسان عندما يتعرض لدعوة الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يتصدى له أهل الشر، ويناله منهم أذى ولو كان قليلا، فأمر لقمان ابنه بالصبر عليه.
يقول سيد قطب في تفسير هذه الآية: "وهذا هو طريق العقيدة المرسوم. توحيد الله، وشعور برقابته، وتطلع إلى ما عنده، وثقة في عدله، وخشية من عقابه. ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر، بالزاد الأصيل زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله، من التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها. ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي. ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء" إن ذلك من عزم الأمور"وعزم الأمور قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم" [46]
وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتزان وينفذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب، بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب الحكيم، بخلاف عدم الصبر الذي يدفع إلى التسرع والعجلة فيضع الإِنسان الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف برعونة فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق أو يريد الخير فيغدو جانياً أو مفسداً ولو أنه اعتصم بالصبر لَسلِم من كل ذلك[47]
لهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر، لأن الصبر على المصائب يبقى للفعل نوره، ويبقى للشخص وقاره، ولذا كان الصبر من الآداب الرفيعة والأخلاق القويمة، و صفة من صفات المؤمن، وسمة من سمات المبشرين بالأجر العظيم من الله عز وجل قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[48].


المبحث السابع : الوصايا عن الأداب
يستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى آداب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إِلى الخير، ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل[49].
ولهذا لما أمر لقمان ابنه بأن يكون كاملا في نفسه، مكملا لغيره، كان يخشى بعدها من أمرين، أحدهما: التكبر على الغير بسبب كونه مكملا به. والثاني: التبختر في النفس بسبب كونه كاملا في نفسه[50].
يقول تعالى حكاية عن لقمان وهو يعظ ابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[51].
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[52].
فمن الآيتين الكريمتين السابقتين يتضح أن الآداب المتضمنة في تلك الموعظة هي كالتالي:
1) {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس} ينهى لقمان ابنه عن الكبر، والمعنى أن لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم، أو كلموك احتقاراً منك لهم واستكباراً عليهم، ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم[53]. والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر حركة الكبر والازورار وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار[54].
يقول الشيخ د. وهبة [55]:"  كن متواضعا سهلا هينا لينا منبسط الوجه، مستهل البشر، كما
جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله» ."
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، فالمعنى: أقبل عليهم متواضعاً مؤنسا مستأنسا، وإذا حدثك أصغرهم فأصغ إليه حتى يكمل حديثه، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل[56].
وبناء على ما تقدم يمكن القول بأن التكبر ليس من أخلاق المؤمن، فلو عرف المتكبر حقيقة نفسه أي أن أوله نطفة قذر، وآخره جيفة منتنة يخجل من نفسه، ووقف عند حده، وأخلص العبادة لربه وتواضع لخالقه، لأن الإِنسان كلما تواضع لله رفعه الله، وكلما تكبر عليه وضعه وقصمه، وفد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: "ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"[57].
2) {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً...} المرح يأتي في اللغة بمعنى شدة الفرح والنشاط[58]. حتى يجاوز قدره، ويأتي أيضا بمعنى التبختر والإختيال فقوله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} هو بمعنى ولا تمش في الأرض مشية تبختر واختيال ولذلك ختم الله الآية بما يناسب هذا المعنى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل مختالٍ على الناس مستكبر عليهم بمشيته بينهم أو بإعراضه عنهم، ولا يحب كل فخور على الناس بنفسه أو بما أتاه الله من قوة أو مالٍ أو نسبٍ أو جاهٍ أو ذكاء قلب أو جمال وجه وحسن طلعة[59].
3) {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...} بعدما نهى لقمان ابنه عن مشيه المرح وصعر الخد أمره بالمشية المعتدلة القاصدة، فقال تعالى على لسان لقمان: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإِسراف وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال ومن القصد كذلك لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق[60]
من أجل ذلك طلب لقمان ابنه أن يتوسط في مشيته، والمراد من ذلك أن تكون مشيته ما بين الإسراع والبطء أي لا تدب دبيب المتماوتين ولاتثب وثب الشطار[61].
4) {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، أغضض من صوتك أي أنقص منه، أي لا تتكلف رفع صوتك وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك التواضع[62].
وغض الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيئ الأدب أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه، يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق[63].
يقول القرطبي: في هذه الآية دليل على تعريف قبح ردع الصوت في المخاطبة، والملاحاة[64] بقبح أصوات الحمير لأنها عالية، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً"[65].


الخاتمة
يتضح من الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه أنها تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً وإلى مرتكبها إن كانت نهياً. فأمره بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك وبين له الموجبة لتركه. وأمره ببر الوالدين وبين له السبب الموجب لبرهما وأمره بشكره وشكرهما ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما مالم يأمرا بمعصية ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك. وأمر بمراقبة الله وخوّفه القدوم عليه وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها. وأمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}.
ونهاه عن التكبر وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك[66].
فحقيق من أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهورا بها، ولهذا من منّة الله تعالى على عباده أن قصر عليهم من حكمته ما يكون لهم به أسوة حسنة[67].
فالوصايا السابقة هي منهج الآداب السامية التي يؤدب الله عباده ذلك لأن في امتثالها سعادتهم وفلاحهم دنيا وآخرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم يرون آثارها التربوية في توجيه وتهذيب سلوكهم، وتعمل على زيادة الألفة و المحبة بينهم كما يؤدي هذا إلى تماسك مجتمعهم.


المراجع
1.  الأخلاق الإسلامية، عبد الرحمن الميداني،
2.  البداية والنهاية، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي ، دار إحياء التراث العربي ، الطبعة: الأولى 1408، هـ - 1988 م
3.  التربية الإسلامية الأصول والتطبيقات، د محمد عبد السلام العجمي، دار الناشر الدولي، الطبعة الاولى 1427 ه – 2006 م
4.  تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ
5.  التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج،  د وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر المعاصر – دمشق، الطبعة : الثانية ، 1418 هـ
6.  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م
7.  الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى : 671هـ)، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة : الثانية ، 1384هـ - 1964 م
8.  سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ), شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م
9.  صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ
10.                   صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)، دار إحياء التراث العربي – بيروت
11.                   فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني ، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى - 1414 ه
12.                   في ظلال القرآن، لسيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385هـ) دار الشروق - بيروت- القاهرة، الطبعة: السابعة عشر - 1412 هـ
13.                   القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817هـ)، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة: الثامنة، 1426 هـ - 2005 م
14.                   القرأن الكريم
15.                   الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ، لأبي القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538ه) دار الكتاب العربي – بيروت، لطبعة: الثالثة - 1407 ه
16.                   مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى - 1417 ه
17.                   معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه، د./ عبد الرحمن بن محمد عبد المحسن الأنصاري، الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة
18.                   مفاتيح الغيب = التفسير الكبير: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 هـ
19.                    منهج القرآن في تربية المجتمع، عبد الفتاح عاشور




الفهارس

مقدمة ..........................................................2
سبب اختيار الموضوع ..........................................4
كلمة الشكر والتقدير.............................................6
خطة البحث ....................................................7
الفصل الأول : تربية الأولاد......................................8
المبحث الأول : مفهوم التربية ...................................8
المطلب الأول : التعريف اللغوي..................................8
المطلب الثاني : التعريف الاصطلاحي...........................10
الفصل الثاني : التعريف بسورة لقمان.............................11
المبحث الأول : سورة لقمان .....................................11
الفصل الثالث : التعريف بشخصية لقمان.........................12
المبحث الأول : شخصية لقمان..................................12
الفصل الرابع : وصايا لقمان.....................................15
 المبحث الأول : الاجتناب من ا لشرك بالله......................15
المبحث لثاني : طاعة الوالدين ..................................16
المبحث الثالث : الإيمان بقدرة الله ...............................17
المبحث الرابع : الأمر بإقامة الصلاة.............................20
المبحث الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر............24
المبحث السادس : الصبر........................................27
المبحث السابع : الوصايا عن الأداب.............................29
الخاتمة...........................................................34
المراجع ..........................................................36
الفهارس .........................................................39



[1] المعجم الزسيط
[2] نفس المرجع
[3][3] التربية الإسلامية ص 23
[4] التربية الإسلامية ص 23
[5] مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني ص2:235 )
[6] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ص 3: 489
[7] في ظلال القرآن، سيد قطب،ص 5: 2780
[8] فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني ،ص (4- 273 )
[9] نفس المرجع
[10] نفس المرجع
[11] البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ، ص(2 - 147)
[12] نفس المرجع
[13] نفس المرجع
[14] نفس المرجع
[15] البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ، ص(2 - 147)
[16] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ص(3- 493


[17]سورة البقرة: آية (285).
[18] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د وهبة بن مصطفى الزحيلي، ص 21: 146
[19] سورة لقمان: آية (16).
 [20]القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/66.
 [21]القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/67.
[22] سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2789.
[23] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/67.
[24] سورة لقمان: آية (16).
[25] سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2789.
[26] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/67.
[27] معالم التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه. ص20
[28] الترمذي: الجامع الصحيح 5/12 كتاب الإيمان (41) باب ما جاء في حرمة الصلاة (8) رقم الحديث (2616).
[29] المرجع السابق: 1/417 أبواب الصلاة، باب ما جاءكم فرض الله على عباده من الصلوات  رقم الحديث( 213)
[30] الترمذي: الجامع الصحيح 2/270 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة (305)، رقم الحديث (413).
[31] معالم التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه ص 23
[32] سورة المؤمنون: الآيتان (1-2).
[33] عبد الفتاح عاشور: منهج القرآن في تربية المجتمع ص 193.
[34] سورة العنكبوت: آية (45).
[35] عبد الفتاح عاشور: منهج القرآن في تربية المجتمع ص 194.
[36]سورة البقرة: آية (153).
[37] سورة المعارج: الآيات (19-20-21-22-23).
[38] البخاري: صحيح البخاري بشرح فتح الباري 2/11، كتاب مواقيت الصلاة (9)، باب الصلوات الخمس كفارة (6)، رقم الحديث (528).
[39] علي حسن العريض: فتح الرحمن في تفسير سورتي الفاتحة ولقمان ص 92.
[40] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د وهبة بن مصطفى الزحيلي ، ص 21:149
[41]سورة آل عمران: آية (110).
[42] مسلم: صحيح مسلم بشرح النووي 2/380، كتاب الإيمان (1)، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (20)، رقم الحديث 78/49.
[43] عبد الرحمن الميداني: الأخلاق الإسلامية 2/630-632.
[44] الترمذي: الجامع الصحيح 4/468، كتاب الفتن (34)، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (9)، رقم الحديث (2169).
[45] سورة لقمان:آية 171.
 [46]سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2790.
[47] عبد الرحمن الميداني: الأخلاق الإسلامية 2/293.
[48] سورة الزمر: آية (10).
[49] سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2790.
[50] الفخر الرازي: التفسير الكبير 25/149.
[51] سورة لقمان: آية (18).
[52] سورة لقمان: آية (19).
[53] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/446.
[54] سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2790.
[55] : التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج،  د وهبة بن مصطفى الزحيليص 21:150
 [56]القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/70.
[57] مسلم: صحيح مسلم بشرح النووي 16/378، كتاب البر والصلة والآداب (45)، باب استحباب العفو والتواضع (19)، رقم الحديث 69/2588.
 [58]الفيروز آبادي: القاموس المحيط 308.
[59] عبد الرحمن الميداني: الأخلاق الإسلامية وأسسها 1/676.
[60] سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2790.
[61] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/71.
 [62]سورة لقـمان: آية (19).
[63] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/71.
[64] المرجع السابق.
[65]البخاري: صحيح البخاري بشرح فتح الباري 6/350 ، كتاب الخلق (59)، باب خير مال المسلم (15)، رقم الحديث (3303).
[66] عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/79.
 [67]المرجع السابق 6/ 79-80.

Tidak ada komentar:

Posting Komentar

Powered By Blogger